Monday, April 21, 2014

ريمي - قصة قصيرة - الجزء الثاني






ذهبت ليلتها ريمي إلى البيت وأغلقت على نفسها الباب، ظلت مستيقظة حتى الفجر، وكانت صوت آذان الفجر بصوت محمد رفعت الذي صُدر من هاتفها ما جعلها تقوم لتناجي ربها. لم تجد نفسها تقول شيء سوى تلك الكلمات القليلة وهي تبكي "
يا رب، أنا هسيب نفسي لحضرتك على قد ما أقدر في الموضوع ده، أنا آسفه إنها متأخرة وآسفه لو اللي جوا مني ده سوء ظن أو شك. فعلا ماقصدش. أنا بس خايفة. مش عارفه ازاي مش قادرة أسيب نفسي لحضرتك في الموضوع ده ورغم كده بقول يارب طمن خوفي. أنا عارفه إن ده تناقض فأنا آسفة بجد، وحضرتك أصلا أعلم بي من نفسي وعارف إن كلي تناقضات وصراعات. 
يا رب انهارده فعلا أول خطوة ليا وبصدق نية إني أحاول وأجاهد نفسي على قد ما أقدر في الموضوع ده، فيا رب خد بايدي ليك بحنية وحضرتك أحن حد أنا عارفه. ويا رب طول ما إيدي مع حضرتك ماتخلنيش أسال عن رجليا فين. يا رب أنا عارفه إن حضرتك بتسير عبادك سواء شاءوا أم أبوا فيا رب خليني أكون راضية إن حضرتك اللي بتختار لي وأنا نفسي راضية ومطمنة. يا رب أنا هحاول فيا رب ساعدني. يا رب ماجيش في يوم خوفي يزيد عن حده ويزيد عن ثقتي في حضرتك تاني فارجع وأبقى وحشة. يا رب إديني الأمل فيك. يارب".

* * *

هاتفته ريمي في صباح اليوم التالي وقالت له:
خوفي على مدار السنين اللي فاتت دي كانت بالنسبالي هي الحصن اللي بستخبى فيه. حاولت كتير قبل كده إني أخرج منه وفعلا خرجت، بس لما خرجت لاقيت نفسي بقع وفاقدة الثقة في نفسي، فكنت برجع جوا منه تاني. مش هنكر إنك أكتر واحد تعلقت بيه من اللي صدتهم، ومش هخبي عليك كمان إن أحيانا النص التاني اللي جوا مني اللي بيقول لازم هتيجي في يوم وهتتجوزي كان بيقولي إني ممكن أقبل الجواز من واحد ممكن يكون عنده نفس مخاوفي عشان يقدر يفهمني ويستعوبني ويحتويني. طبعا وقتها ماتخيلتش إنه يكون في شباب كتير كده، بس أهو اديني وقعت في واحد منهم.

قالت آخر جملة بابتسامة خجولة.

- انا مش مستعجل يا ريمي. أنا فاهم ومقدر جدا اللي انتي فيه لأن أنا كمان خايف زيك، يمكن مش بنفس القدر بس عشان كده إحنا الإتنين لازم نصبر على بعض، وصدقيني هنوصل مع بعض.
قالها بابتسامة فابتسمت هي الأخرى.

* * *

6/4/2037
  الحب وحده هو الذي يٓفطُر القلوب" صدقت أثير عبد الله النمشي حينما قالت ذلك في روايتها أحببتك أكثر مما ينبغي. تقوقعت ريمي داخل نفسها وضمت قدميها على صدريها على الأرض حينما تذكرت تلك الجملة. أنطفا نور العالم أمام عينها وهي تجهش بالبكاء حتى لم تعد ترى ولو بصيص أمل صغير وكفرت بما قاله محمود درويش حينما كتب "وبي أمل يأتي ويذهب، لكن لن أودعه".

* * *

عادا معًا مع والدها من باريس في بداية يوليو من عام 2028. تقدم لخطبتها بعد عودتهما بأسبوعين وظلا مخطوبين حتى أعلنا يوم فرحهما، يوم 3/3/2030. جاء اليوم الذي كانت تخافه ريمي إلا أنها لا ترهبه الآن، فقد استطاعا معًا على مدار ما يقرب من عام ونصف أن يشد زياد من أذرها ويشعرها أنها قوية وهي تحبه، لم يشعرها يومًا بضعف أو قلة ثقة في النفس، وكان يستمد هو قوته منها عندما كان يراها هي ثابتة دون تلعثم. اختارت ريمي أقرب صديقاتها رضوى لتكون لها bridesmaid.

على مدار سبع سنوات عاشت ريمي أسعد سنوات حياتها. لم تخلو من الخلافات والمشاكل سواء بسبب تربية ولاء ومصطفى والميزانية الاقتصادية للبيت وغيرها من المشاكل التي يمر بها أي منزل، إلا أن تلك المشاكل أكسبتها خبرة في الحياة ولم تكن إلا ليُزيد حبها لـ زياد، رفيق عمرها وشريك دربها. لم يمر عيد زواج أو يوم ميلاد أو عيد أم إلا وتذكرها. لم تكن هداياه فخمة بقدر ما كانت بسيطة، فبرغم حياة ريمي المرفهة التي كانت ولازالت تعشها إلا أنها تعشق البساطة. بسيطة في "مكيجها"، ملبسها، تجهيز بيتها، حتى في تربية أولادها، تعلمهم عدم التكلف، وأن يكونوا عفويين وبسطاء مع الاعتزاز بالنفس واحترامها، فهي لم تنسى مقولة الأمريكي Dorothy Nolte المستشار الأسري حينما كتب "إذا عاش الطفل في جو من الرضا، تعلّم أن يرضى بذاته". تعلم ريمي مدى المسئولية التي تحملها على عاتقها من تربية الأولاد لذلك حضرت الكثير من دوارات تربية الأطفال. ريمي لا تعرف أنصاف الأمور، "أنا إما أجيب أطفال وأربيهم بالشكل الصح أو ماجبهمش للدنيا دي مدام مش هكون مُلمة عن كل اللي يناسبهم واللي مايناسبهمش، فـ The world is hard enough as it is.


* * *

صباح يوم الثلاثاء 3 مارس سنة 2037، خرج زياد لعمله، أمام المرآه تقف ريمي أمامه تربط له ربطة العنق، وفي هذا اليوم ارتدى بدلة تتناسب مع لون ربطة العنق الزرقاء المفضلة لدى ريمي، فهو يعلم كم تعشق اللون الأزرق. أوصلته إلى باب المنزل، وضعت قبلة على جبينه وشاهدته وهو ينزل السلم حتى ركب سيارته. أتفقا في هذا اليوم أن يقيما سهرة رومانسية في المنزل على ضوء الشموع. ظلت طوال فترة عمله هذا اليوم في المطبخ تحضر له ما يشتهي من الطعام، وبالطبع لم تسنى أن تحضر له الأرز باللبن، الـ dessert المفضلة له.


في السادسة والنصف مساء رن الهاتف الخاص بـ ريمي عدة مرات ولكنها لم تسمعه. عادت لغرفتها في السابعة ورأت أكثر من 50  مكالمة لم ترد عليها، همت أن تتصل بالرقم إلا أن الرقم ظهر لها. أجابت وهي تشعر بارتياب وقلق، فمن ذا الذي سيتصل عدة مرات هكذا إلا وكانت كارثة!

جاء صوت رجل على الهاتف
- مدام زياد؟
- أيوة، في إيه؟
- زوجك عمل حادثة وفي العمليات دلوقتي

أسقطت الهاتف وكانت في سباق مع الزمن لتصل إليه، حاولت بقدر إمكانها أن تتفادى الزحام لتصل إليه قبل فوات الآن، ولكن كان الأمر قد قُضي. وصلت بعدما أغلقت الهاتف بنصف ساعة، وما أن وصلت للمستشفى أصبحت غير مرتكزة وتحاول أن تصل إليه، لم تجد من يعيرها بعض الاهتمام ليُعلمها بمكانه، حتى أجابتها إحدى الممرضات على مضض عن رقم الغرفة.

وصلت أمام باب غرفة العمليات لتجد أمامها دكتور يخرج، سألته عن حالة زوجها فأتت الإجابة مفجعة لقلبها، لم تتمالك نفسها، فانخفض ضغط الدم فسقطت على الأرض.

* * *





 
استيقظت لتجد بجوارها أمها ووالدها ووجههما شاحب يكاد يُقرأ عليه أي ملامح. لم تنبس ريمي ببنت شفة سوى أنها انكسرت وأجهشت.

* * *

عادت للمكان الذي كان مليء بالنور، إلا أن نوره رحل برحيل مصدره. ذهبت لغرفتهما، ونامت في مكانه على السرير ولم يسعفها سوى البكاء المتواصل حتى شعرت بورقة صغيرة تحت الوسادة. جفت دموعها الغزيرة وحاولت أن تقرأ ما فيه، كان حجز لشخصين في Jayda Lounge بفندق الكونراد على النيل بمناسبة عيد زواجها السابع، مع فرقة موسيقية تعزف على البيانو أرق كلاسكيات مقاطع بيتهوفن. تعشق ريمي آلة البيانو فهي المفضلة لديها، تشعر بروحها تحلق في الفضاء خارج الكون عندما تستمع لتلك الآلة. أراد زياد أن يفاجئها بأرق سهرة رومانسية في أفخم فنادق القاهرة. لم تحلق روحها حينما قرأت الورقة، فكيف تحلق الروح إلى السماء وقد رحلت مع رحيل الحبيب؟ الذي كان يأخذ بيدها للفضاء تحت التراب الآن ولم يعد في استطاعتها أن تُحلّق، فقط يمكنها أن تلحق به تحت التراب.

تذكرت فيلمها الكرتوني المفضل، تذكرت Ellie التي ماتت وتركت Carl خلفها، إلا أنها لم تتوقع عكس ما حدث في الفيلم، لم تتوقع أن تحصد النهاية روح زوجها.

* * *

مر ثلاثة أشهر على الحادث، ولم يكن يزال قلبها ووجها قبل ملبسها مطلي بالسواد، فحينما رحل زياد انتباها حزن عميق بل ورغبة في الغرق في هذا الحزن. رغم ذلك حاولت أن تظل متماسكة وتختبئ خلف درع الصلابة كما فعلت عند وفاة أخيها الأصغر، لكنها لم تتمالك قواها. لم تعد ريمي تستطيع أن تتظاهر بالقوة وهي بداخلها أضعف من القارورة. زجاج هش أنكسر لحظة ما ارتطم بالأرض وأصبح من المستحيل تجميع أشلاءه، ومهما حاولت جمعه ستظل الندوب بارزة.

أغرقت نفسها في تربية ما بقيَ لها من وصال له في هذه الدنيا، وظل ولائها له ولم تتزوج بعد وفاته لأنه هو الرجل الذي اصطفاه الله لها في هذه الدنيا.

* * *

أصبحت ريمي على حافة الأمل، وهي الفرصة الأخيرة لها، إما أن تنقذ نفسها أو تستسلم فتسقط إلى البؤس والشقاء بلا رجعة. لم تنتهي ريمي أبدًا من حزنها المدفون ولا من صراعاتها المكنونة بعدما سقطت إليهما، فقلبها مشبع بحبه ولا يوجد لقلبها فرصة للنجاة وفي تلك الغرفة المظلمة التي تحملها بين ضلوع صدرها زحام لا يسعه فضاء. روحها شاخت وهي لم تكمل عقدها الرابع بعد، فهي التي من أجله كسرت قاعدة ظلت عقد كامل تخاف منها أصبحت الآن وحيدة، أصبحت غير متزنة أكثر مما كانت تخاف لو كانت وقعت في الحب. أصبحت ضريرة لا ترى من دونه أكثر مما يستطيع الحب فعله في البشر، فالموت يُعمي القلوب أكثر من غيره، ولا زالت نفسها تجزع حينما تذكر التفاصيل.

No comments:

Post a Comment

ياقاريء خطي لا تبكي على موتي
فاليوم أنا معك وغدا في التراب
ويا مارا على قبري لا تعجب من امري
بالأمس كنت معك وغدا أنت معي
أموت ويبقى كل ماكتبته ذكرى
فياليت كل من قرأ خطي دعا لي

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...
 

Designed By Blogs Gone Wild!