Monday, April 21, 2014

ريمي - قصة قصيرة - الجزء الأول





ها هي ريمي تُزف إلى عريسها زياد
. ريمي التي تبلغ من العمر الآن ٣٠ عاما، أصبحت عروسة بعد رفضها لمبدأ الزواج الذي دام لأكثر من عشر سنوات.

* * *

تعيش الآن حياة سعيدة مع ابنتها ولاء وابنها ومصطفى. سمتها ولاء لتقول لزوجها أنها تظل ولاءً له، ومصطفى لأن الله اصطفى لها زياد عن دون الرجال كلهم لتتزوجه. سبعة أعوام كان عمر زواجها، فهي التي أصبحت تعشق الحياة الزوجية مع زوجِها ولم تتوقع أن يوجد شخص ملائكي مثله على الأرض، حتى أتى هادم اللذات ومُفرق الجماعات.

* * *

ولدت وتربت في أرقي أحياء القاهرة، الزمالك. كان يوم مولدها يوم مميز فولدت يوم ٢ شهر ٢ مع بداية الألفية الجديدة. لم تكن تعلم أنه ليس فقط يوم مولدها هو المميز، بل أيضًا التاريخ الذي ستتزوج  فيه. تعودت ريمي منذ الصغر على الرفاهية الزائدة، لا تذهب إلي مدرسة اللغات أو الجامعة الفرنسية بالقاهرة إلا بسائق في سيارتها "الأودي" الزرقاء التي اشتراها لها والدها عندما بلغت الثامنة عشر. تتقن أربع لغات، الانجليزية، والفرنسية، والأسبانية، والأسترالية، وبدأت منذ عدة أشهر في تعلم الصينية والتركية.

لم تتقن ريمي هذه اللغات فقط لأنها تعشق تعلم اللغات، بل لأنها سافرت إلي الدول التي تتحدث تلك اللغات. فوالدها ذو المنصب الكبير والحيثية التي يتمتع بها كونه يعمل في الخارجية جعله يزور أكثر من ٥٠ دولة حول العالم وكانت هي ترافقه مع أمها وأخوها الأكبر منها بخمس سنوات. كانت تسافر كل سنة خارج مصر لمدة ٣ سنوات، وكانت أكثر الدول التي تعلقت بها هي باريس، وكيف لا وهي مدينة الرومانسية؟!

* * *



ريمي تغني للحب ولكنها تلعنه إذا وقعت فيه، تعشق سماع أشعار نذار قباني وقراءة كتب أحلام مستغانمي وغادة السمان، لكنها لم تكن تعلم أن زيارتها لباريس مرة أخرى سيغير مسار حياتها.

* * *

قررت ريمي أن تبقى بمصر  لتكون مع والدتها التي مرضت في بداية دراستها الجامعية. تخرجت من كلية اللغات التطبيقية وطوال فترة الدراسة التي دامت أربع سنوات حاول العديد من الشباب كسب قلبها. فـ ريمي رغم كونها "دلوعة البيت" إلا أنها كريمة جدا سواء بالمال أو الوقت أو الجهد، بالإضافة لوفائها وإخلاصها لجميع من عرفت، فأحبها الجميع. وكان لجمالها البريء عامل رئيسي لدى زملائها ليقعوا في إعجابها. هي ليست بشقراء، إلا أن شعرها البني الفاتح الطويل مع عينيها الرماضي والنمش على وجهها زاد من براءتها وجمالها. طوال فترة الدراسة ظلت تغلق باب الحب أمام قلبها، بل وتصفعه إذا ما شعرت بأنها في حالة إعجاب بأحد الزملاء. تخاف من تحمل المسئولية وليست بقادرة على احتواء أحد، ليس بغرور إنما بسبب عدم قدرتها على التعبير عما بداخلها أو إظهار مشاعر الحب والتعاطف، بل والأكثر من ذلك أن هذا كله عندها يرمز إلى الضعف. مازن زميل الدراسة أكثر شاب ظلت تجاهد ضده، فاستغرقت أكثر من عام ونصف حتى تستطيع أن تُميت قلبها نحوه.

قال لها ذات يوم: ريمي.. انتي ليه بتهربي كده؟ أنا معجب بيكي وأنا حاسس إنك برضه معجبة بيا.
احمرت وجنتيها ولم تنظر إلي عينه وهي تقول: مصطفى أنا وأنت ممكن نكون لايقين على بعض بس ده مش معناه إننا نفع نكون لبعض.
 - ليه؟
- عشان أنا فيا عيوب
كانت مجرد إجابة ساذجة تحاول الهروب بها من المأزق التي وقعت فيه
-  كلنا فينا عيوب، وزي ما فينا عيوب فينا مميزات.
- عارفه بس مين ده اللي ف الدنيا دي يستحق إني عشانه آ give up عن راحتي وبيت أهلي ومستقبلي وأقرص له وقتي وحياتي والأهم نفسي؟ أنا شخصيا مش شايفه إنه فيه ولا عايزه يكون فيه.
- يعني.. يعني ايه؟
يعني أنا رافضة مبدأ الحواز، والجواز كله على بعضه كده package .. take it or leave it .. وزي أي حاجه في الدنيا لها حلاوتها ووحشها، يبقى الفيصل في الموضوع كل واحد شايف إيه يغطي على إيه، وأنا شايفة إن السلبيات أكبر. حاول تنساني.

لم تعطيه فرصه ليرد عليها، فمجرد أن أنهت كلامها تركته خلفها ورحلت، وكانت تلك أول مرة تبوح فيها ريمي لأحد دون أهلها أنها ترفض الزواج. تركت قلبه ينكسر، وبالرغم من حزنها على عما فعلت إلا أنها لم تكن مستعدة أن تقوم بفعل يغير مسار حياتها كُليًا فقط لتُرضي أهلها وتسعد رجل، وتظل هي تعيسة. لم يكن يعلم أحد سوى ربها التي تناجيه كثيرا عما يدور بداخلها، أنها تفضل أن تكون وحيدة عندما تكبر على أن تكون تعيسة، لأنها تعلم أن الحب لا يدوم بعد الزواج وأن دوامة الحياة ستأخذهم في ساقية يلفون هم حولها مما يولد المشاكل، ولم تكن هي من النوع الذي يستطيع أن يتحمل أو حتى يطيق كلمة "مشكلة" أو "ألم". تتجنب كل ما هو له علاقة بهاتين الكلمتين. تعلم أنه مستحيل أن تتجنبهما في كل أمور حياتها ولكنها تتجنبها بكل حرص في أمر الزواج لأنهما مقترنين بالزواج أكثر من أي شيء.

تتذكر دوما فيلم الكرتون المفضل لديها وهو up، قصة ذلك الرجل الذي عشق زوجته وكبرا معًا حتى واصلا إلى أرذل العمر، تتمنى أن تعيش حياة سعيدة مع رجل حتى يشيخا معًا، إلا أنها تخشى الغيب، فما كان منها إلا أنها دفنت تلك الأمنية تحت التراب.

* * *

قالت لها صديقتها المُقربة رضوى بابتسامة حب ذات يوم: عايزين نشوفك بتحبي بقى؟
ارتبكت وقالت في نفسها: بيقولولي عايزين نشوفك تحبي، وأنا بقول مالكوش دعوة بيا لأني لا أفقه شيء في المدعوق اللي اسمه الحب.
كان هذا الحوار في أخر يوم لها في الجامعة. لمحت مازن من بعيد، كان ساكنًا ومستكينًا منذ ذلك اليوم، ودت لو تستطيع أن تغير من نفسها لكي لا تكسر بقلب أحد والأهم أن تغير من نفسها لنفسها، إلا أن محاولتها فشلت.

* * *


تركت مصر وسافرت مع والدها الذي يحضر قمة للأمم المتحدة في مهمة قصيرة لمدة ستة أشهر في باريس. لم تكن غريبة عن باريس، فهي تحفظ شوارعها وتعرف طباع ناسها. ظلت طوال ستة أشهر لا تفعل أشياء كثيرة سوى ممارسة رياضة الركض في الصباح الباكر في حديقة Bois de Boulogne وقراءة كتب رومانسية لأشهر الروائيين الفرنسيين.

تقرأ وتسرح بخيالها الواسع في عالم تعرف أنه غير حقيقي، تتمنى أن تعيش حياة مثل تلك القصص ولكنها تفوق من غفلتها؛ لأنها تدري أن كل ما كتب ما هو إلا من نسيج خيال الكتاب الذين يتمنون هم أنفسهم أن يعيشوا مثل تلك القصص فتخرج إبداعاتهم للنور، إلا أن حياتهم بقعة مظلمة لا عبق ولا نسيم فيها من تلك الكتابات.


* * *



ذات يوم كانت على جسر The Pont des Arts وهو أول جسر معدني يتم بناءه في باريس من عام 1802 إلى عام 1804 في عصر نابليون، الذي يمر من فوق نهر Seine. لم تكن تذهب لهذا الجسر إلا لكى تسرح بخيالها في الأقفال التي يضعها العشاق على السور المعدني للجسر. تجلس بالساعات هناك حتى الليل تشاهد الآلاف منهم فتتخيل قصة كل couple مرا من هنا ووضعا معًا القفل، يا ترى كيف التقيا، وهل تفرقا، هل هم سعداء أم تعساء الآن، ما هو السر الذي اتفقا عليه كل منهما ووعدا بعضهما البعض ألا يخلفانه، هل بقيا عليه أم أخلفه أحد الأطراف؟ كلها أسئلة تدور في ذهنها تنتهي أغلب الـ scenarios  بنهاية مأساوية.

أثناء غياب عقلها في العالم الآخر، مر من أمامها شاب في أواخر العشرينات كان يتحدث في المحمول وهو يسنده على كتفيه ليبحث بيديه في جيبه عن ورقة وقلم ليدون معلومة يبلغه به المتصل. سقط الهاتف منه أمام الفتاة إلا أن غيابها كان شديدًا لم يُسمعها صوت ارتطام المحمول على الأرض، حتى انتبهت له وهو قادم نحوها ويحمل الهاتف من على الأرض.
قال لها: Je suis désolé
قالت: Pas de problème

أخذ المحمول الذي انطفأ من على الأرض وما أن هم في الرحيل حتى أنتبه لوجود مجموعة شعرية بجواها لغادة سمان بعنوان "أعلنت عليك الحب".
      قال لها: أنتي عربية؟
      - أيوة.
مد يده لُيلقي السلام
     - زياد من مصر
     - ريمي مصرية
     - مش باين عليكي
ردت بابتسامة هادئة. تبادلا الحديث فعلمت أن والده المدير التنفيذي بإحدى الشركات المصرية في باريس. في نهاية الحديث طلب منها رقم هاتفها فاستحيت أن ترفض.
مر أسبوعان على هذا اللقاء وريمي تكاد تذكره، فبالرغم من صداقتها مع العديد من الناس إلا أنها تحافظ دوما على حدود علاقتها مع الشباب كي تحافظ على قلبها، فهي ترى أن الوقوع من أعلى جسر Millau الفرنسي الذي يبلغ ارتفاعه 343 مترًا أقل ألما من الوقوع في الحب. اتصل هو بها فردت عليه بهدوء وطلب منها اللقاء ومن هنا نشأت علاقة صداقة وثيقة بينهما. تبادلا الحديث عن كل شيء وتجنبت هي الأحاديث المتعلقة بالحب. ظلت علاقتهم علاقة صداقة لمدة شهر حتى جاء الحدث الذي غيّر مسار حياتها

* * *



ذات يوم اتصل زياد على هاتفها إلا أنها لم تجيب. ظل يحاول عديدًا حتى ترك على هاتفها أكثر من
10 missed calls. عندما رأت الهاتف اتصلت به فأجابها بخبر وفاة والده. حضرت العزاء وبدأ يحدثها عن تعلقه بوالده فظلت بجواره تحاول مواساته وتخفيف ما ألمّ له، فهي تعرف ماذا يعني الفراق.

كان لـ ريمي أخ أصغر منها بخمس سنوات تُوفي في أول سنة لها بالجامعة، كان هذا سبب مرض والدتها. حينما تُوفي رامي لم تضعف، ظلت هي صامدة من أجل أمها، واحتفظت لنفسها بآلام الفراق، وكانت تُخرج فجعها في قراءة الكتب حتى أزرفت أول دمعة لها ثم أجهشت بالبكاء حينما قرأت لأحلام مستغانمي "حدث أن أكتب له رسالة لا أنشرها. وحدهم من رحلوا يسمعون حيث هم صهيل صمتنا الاختياري احتراماً لصمتهم الأبديّ. ليس من الوفاء إشهاد الغرباء، عمّا نوشوشه للراحلين الذين أحبوننا".

ظل زياد في حالة حداد صامت لثلاثة أشهر، ثم بدأ يتنفس الصعداء بعد ذلك وكان باقي حينها على انتهاء فترة عمل والد ريمي في فرنسا شهرين. صارحها بتعلقه بها إلا أنه لم يكشف لها جزء كبير عن شخصيته حتى عبرت هي عن مدى خوفها من الزواج ومسئولياته.
قال لها: عارفه أغنية ماتخفيش بتاعت محمد منير؟
- آه مالها؟
- دي أغنيتي المفضلة
لم ترد
- أنا عارف إنك خايفة زي، وعارف إنك خايفة من عدم التوازن اللي الحب بيسببه. وعارف كمان إنك حساسة جدا ومش هنسى الستاتيس اللي كتبتيها على الـ Facebook "إن أسرع الإناث بكاء هي التي لا تستطيع شرح ما في قلبها". أنا مستوعب عدم قدرتك في التعبير عن اللي جواكي بس تعالي إحنا الاتنين نعين بعض ونقوي مع بعض.
لم تجد ريمي ما ترد به على زياد، كانت ساكنة وإن كانت تفتقد السكينة.

No comments:

Post a Comment

ياقاريء خطي لا تبكي على موتي
فاليوم أنا معك وغدا في التراب
ويا مارا على قبري لا تعجب من امري
بالأمس كنت معك وغدا أنت معي
أموت ويبقى كل ماكتبته ذكرى
فياليت كل من قرأ خطي دعا لي

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...
 

Designed By Blogs Gone Wild!